في ٢ أيلول ٢٠١٩، أي قبل شهر ونصف على اندلاع انتفاضة ١٧ تشرين، دعا سمير جعجع في المؤتمر الاقتصادي الذي عقد في القصر الجمهوري في بعبدا، بحضور رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب، الى قرار واحد، يتخذونه بجرأة، وهو الخروج من السلطة وتسليم دفة البلاد الى حكومة اختصاصيين مستقلين، تعمل على معالجة الوضع الاقتصادي الآيل الى الانهيار. عند الأولوية الملحة للاقتصاد وتماسه مع الناس وبنية الدولة، تسقط كل الحسابات السياسية بالنسبة الى جعجع، لأن انهيار الاقتصاد سينهي الدولة واللعبة السياسية فيها. لم يستجب أحد لدعوته، تعرضت القوات للمزيد من الحملات السياسية واستمرت محاصرتها. يومها اعتبرها رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر بأنها تريد مواجهة العهد وتقويضه، وزاد غضب الرئيس سعد الحريري منها لما اعتبره انه محاولة لإسقاط الحكومة.
لكن جعجع يجزم ان حساباته لم تكن سياسية ابداً، بل كان يقرأ وقائع وارقام، ويصارح اللبنانيين بما هو آت، بدلاً من لعبة التخدير والتسويف، التي ادت الى الانفجار. وربما كان الانفجار الطبيعي ضرورة لصدم القوى السياسية، ولإعادة الاعتبار الى الحيوية السياسية لدى الناس، بخلاف تأطير انقساماتهم حسبما يريد كل طرف سياسي تعليبها. بانتفاضة ١٧ تشرين استعاد اللبنانيون، حيويتهم، اثبتوا وعيهم وخروجهم من الشرانق الطائفية، وكانوا على قلب واحد وكلمة واحدة، هي المطالبة بالحقوق، واحترام كرامتهم بدلاً من نسفها على مذابح المساومات، تحت شعارات واعتبارات خاوية، لم تغنيهم ولم تسمنهم، بل ساهمت في افقارهم وانهيار اقتصادهم.
ما تأسس في ١٧ تشرين، وما تلاها بالنسبة الى جعجع، هو تحرير السياسية من قبضة السياسيين، فلم يعد من مايسترو يظن نفسه قادراً على تحريك الناس وادارتهم، خرج اللبنانيون من مشارب وآراء مختلفة، يطالبون بأبسط حقوقهم. وهذه حركة لن تكون محصورة في تاريخها، ولا في تشكيل حكومة من هنا او حسابات انتخابية من هناك، انما ستؤسس لتغيير جذري، ومخطئ من يعتقد انها ستتراجع الى الوراء، حتى ولو انخفض منسوب زخمها من وقت إلى آخر.
تمكنت الانتفاضة من تحقيق اهداف كثيرة، لم يكن هدفها حصراً اسقاط الحكومة، وليست كما حاول البعض تصويرها بأنها تستهدف شخص رئيس الحكومة، بل تستهدف المنظومة برمتها والقوات كانت من ضمنها لكنها سارعت لقراءة الوقائع والحقائق والمزاج الشعبي، فانسجمت مع خيارات الناس. اسقاط الحكومة اسقط المنظومة التي تعود الحصة الاكبر فيها للتيار الوطني الحر وبعده الثنائي الشيعي، وفي المرتبة الثالثة تيار المستقبل الذي كان اكبر المتضررين من هذه التركيبة وآلية تسيير الأمور فيها.
يرفض جعجع الاتهامات التي تطاول القوات، بأنها كانت تدعم الثورة لمواجهة حكومة الحريري، كما يرفض التصنيفات المذهبية والطائفية، ويؤكد:” اللعبة خرجت من هذا المنطق، وأبرز الردود هو التلاحم بين ابناء طرابلس وابناء جل الديب والزوق، عندما ناصروا بعضهم البعض في لحظات الاستفراد بهم، والمشهد الابلغ هو في صراخ طرابلس للنبطية والهرمل، ونزول اهل تعلبايا وسعد نايل الى بيروت دفاعاً عن الانتفاضة، واهدافها. وهذا الشعب اصبح اوعى من اغراقه في حسابات الطوائف والمناطق. عند سؤاله عن الموافقة على اسقاط رئيس الحكومة مقابل عدم اسقاط رئيس الجمهورية. يجيب جعجع ان المعادلة غير مطروحة بهذا الشكل، الحكومة هي اساس السلطة، واسقاطها لا يستهدف شخص الرئيس بل القوى المهيمنة عليها، وارادت اتخاذها كمتراس وغطاء لمشاريعها. وهو ليس متمسكاً بهذا العهد، لكن الأهم ما الذي سيأتي بعد هذا العهد، ولا يغادر فلان كي يأتي من يمثله او ينوب عنه أو مثله. لذلك كان الطرح الاساسي هو حكومة اختصاصيين مستقلين.
في توصيفه للحكومة، يعتبر جعجع انه تم اللعب على شكلها كما وجرى تلغيمها بوزراء معينين من جهات مختلفة، فقدمت وكأنها حكومة تكنوقراط ولكن تبقى العبرة في التنفيذ. ويعتبر انه كان بإمكان الحكومة اظهار استقلاليتها او جديتها بالعمل، من خلال تعاطيها مع مشروع الموازنة، لكنها لم تفعل، وهذا ما اصابها بمقتل، خصوصاً بعد مشهد جلسة مجلس النواب لإقرار الموازنة، وتبنى فيه حسان دياب موازنة الحكومة السابقة التي أسقطت بسبب هذه الموازنة، وكأن لا احد قد تعلّم، وليس هناك من يريد اثبات جدية في التعاطي مع الملفات الملحة والداهمة. ويقول:” كان بالامكان العمل على اعداد البيان الوزاري لتحصل الحكومة على الثقة، وتسترد الموازنة وتجري تعديلات جذرية عليها، وبعدها يتم اقرارها، ولكن ما جرى لا يبشر بالخير لكننا سننتظر لنرى”.
في تقييمه للموقف الدولي من هذه الحكومة، يعتبر انه قد تعطى فترة سماح لمدة شهر، وكيف ستتعاطى، ولكن لا احد سيقدم مساعدات للبنان بدون مقابل، والمقابل الاول في ذلك، هو الاهتمام باللبنانيين، وكف بعض الاطراف لشرورهم عن الدول الأخرى، وعدم اقحام لبنان بالصراعات الاقليمية.
يشير جعجع الى ان القوات تجري عملية مراجعة ونقد لكل المرحلة السابقة، وهي في طور التحضير للمزيد من المشاريع للمرحلة المقبلة، عندما تسأله اين أخطأت القوات وأين ندمت؟ يقول:” لم يكن لدينا خيارات افضل مما قمنا به، وعندما حاولنا القيام بالمزيد ولم نتمكن استقلنا، والمرحلة ليست لاحتساب المكاسب والخسائر على الصعيد السياسي والشعبي، التحدي الأول هو انقاذ الدولة والاقتصاد من الانهيار والسقوط.
لم تنته الانتفاضة بالنسبة الى جعجع، فيها كل اللبنانيين من كل الفئات، وهي ستجدد نفسها بنفسها، ولكن هل القوات انسحبت من الشارع وتراجعت؟ يسارع الى الاجابة بأنه لم يكن هناك اي قرار لدى القوات للمشاركة بالتحركات، الناس انفجرت وتحركت بمفردها، ومسألة قطع الطرقات كانت خياراً اساسياً للمتظاهرين، تمكنوا من خلاله من اسقاط الحكومة، وعندما وجدوا انه لن يحقق المزيد وقد يحقق صدامات مع مواطنين آخرين، وسينعكس سلباً عليهم تراجعوا عنه. هل كان يخاف من سقوط دماء في المناطق المسيحية؟ ينفي ذلك قطعياً، ويقول بوجود الجيش لم يكن اي خطر وارد، وموقف الجيش اللبناني ممتاز، وهذا موقفه التاريخي، في هكذا احداث كان يقف الى جانب الناس، ويحمي المصالح العامة والخاصة، لأن الجيش في لبنان ليس قمعياً.
لا يخاف سمير جعجع على لبنان من السقوط، يعتبر انه قادر على حماية نفسه بتحركات اللبنانيين، الذين يثبتون في كل محطة توقهم الى الدولة الوطنية، خارج الارتباط بالاشخاص او الطوائف، ومن كان يظن أن بإمكانه أخذ اللبنانيين رهائن في مشروعه، الاقليمي او الشخصي، وجد نفسه مخطئاً، لأن المجتمع اللبناني غير قابل للأسر، ومن كان يستعجل معارك رئاسية قبل اوانها، اصطدم بحيوية اللبنانيين، الذين يريدون انقاذ الجمهورية، بدلاً من السكوت عن استخدامهم في معارك وطموحات رئاسيّة. ما قبل ١٧ تشرين ليس كما بعده، وعلى كل الافرقاء التفكير ملياً وجدياً بما فرضته هذه التحولات لتغيير اداءهم وآلية عملهم، والأهم التلاحم الوطني بين اللبنانيين يفرض على الاحزاب التوجه نحو تبني مشاريع وطنية لا طائفية، وتسقط ما يسمى بالحسابات الاسلامية او المسيحية، مشدداً على أن هذا هدف اساسي تضعه القوات نصب أعينها، وتتطلع الى الذهاب نحو مشروع لا طائفي، يتكامل فيه المسلمون والمسيحيون على اساس المواطنة. وذلك لمواجهة اي مشاريع تؤدي الى الشرذمة والتفريق، او تعزز العنصرية، التي لا بد لها ان تسقط، وما سيسقطها هو “صفقة القرن” التي تولد ميتة لأنها تعارض التاريخ، ولا يمكن للبنانيين معارضة التاريخ، ولا المستقبل، ومنطق صراع الاكثريات والاقليات سقط بعد ان اثبت فشله.